لماذا يستمر حُمّى القرم–الكونغو النزفية (CCHF) سنويًا في العراق: تحليل شامل

د. ماجد حمید الصایغ / اختصاص امراض الدواجن / استرالیا
- مقدمة
تُعد حُمّى القرم–الكونغو النزفية (CCHF) من أخطر الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان في العراق، وتُصنف كعامل مُمرض من المستوى الرابع للأمان الحيوي نظرًا لارتفاع معدل الوفيات المرتبط بها وإمكانية تحولها إلى جائحة. سُجلت أول حالة مؤكدة في العراق عام 1979، ومنذ ذلك الحين أصبحت المرض متوطنًا مع تفشيه سنويًا بشكل متزايد من حيث الحجم والخطورة، وكان أبرزها تفشي عام 2023 الذي سُجل فيه 587 حالة مؤكدة و83 حالة وفاة.
إن استمرار انتشار المرض في العراق ليس محض صدفة، بل هو نتيجة لتداخل معقد بين العوامل البيئية والثقافية والسياسية وأوجه القصور في النظام الصحي. يقدم هذا التقرير تحليلًا معمقًا للأسباب الجذرية والعوامل المساهمة في هذا التحدي الصحي المتكرر.
- 2. المحركات الرئيسية لاستمرار تفشي CCHF سنويًا في العراق
2.1. العوامل البيئية والمناخية
2.1.1. المناخ والجغرافيا
- • المناخ شبه الجاف إلى الجاف في العراق يوفر بيئة مثالية لتكاثر قراد الهيالوما، وهو الناقل الرئيسي للفيروس.
- • التغيرات الموسمية، خاصة في الربيع وأوائل الصيف، تعزز نشاط القراد
- • قلة الأمطار والتصحر يجبر الحيوانات على الاقتراب من المناطق السكنية، مما يزيد من فرص الاحتكاك بين الإنسان والقراد.
2.1.2. ازدياد أعداد القراد
- • غياب برامج وطنية منسقة لمكافحة القراد.
- • توقف حملات رش وتغطيس الحيوانات، خاصة خلال وبعد جائحة كوفيد-19، مما سمح بانتشار القراد بشكل غير مسبوق.
2.2. ممارسات الزراعة وتربية المواشي
2.2.1. الزراعة التقليدية والذبح المنزلي
- • يقوم العديد من العراقيين بتربية المواشي داخل المنازل وبشكل قريب من التجمعات البشرية.
- • الذبح المنزلي، خصوصًا خلال المناسبات الدينية (مثل عيد الأضحى وعاشوراء)، يزيد من التعرض للدم والأنسجة المصابة.
2.2.2. التجارة غير المنظمة للمواشي
- • تهريب المواشي عبر الحدود من دول مجاورة موبوءة مثل إيران وتركيا، مما يؤدي إلى إدخال سلالات جديدة من الفيروس.
- • عدم وجود حجر بيطري أو فحص مسبق للمواشي المستوردة.
2.2.3. الجزارون غير المرخصين : يُقدَّر وجود حوالي 7000 مجزر غير قانوني تعمل دون رقابة صحية. مع غياب أدوات الوقاية والسلامة لدى العاملين في الذبح يعزز من خطر انتقال الفيروس للإنسان.
2.3. العوامل الاجتماعية والثقافية
2.3.1. المناسبات الدينية والثقافية
- • عيد الأضحى ومحرم تشهد ذبحًا جماعيًا للحيوانات في تجمعات كبيرة، مما يؤدي إلى:
- • زيادة التفاعل بين الإنسان والحيوان.
- • التخلص غير السليم من المخلفات (الدم، الجلود، الأحشاء).
- • انتقال العدوى من المناطق الريفية إلى الحضرية.
2.3.2. الأدوار الجندرية والمخاطر المنزلية
- • تتعرض ربات البيوت للحم النيء خلال التحضير دون وسائل وقاية.
- • الأطفال والأسر في المناطق الريفية يشاركون في رعاية الحيوانات وذبحها، مما يزيد من خطر الإصابة داخل المنزل.
2.4. ضعف البنية التحتية الصحية ونظام المراقبة
2.4.1. أنظمة مراقبة غير ممولة بشكل كافٍ
- • غياب أدوات الكشف المبكر في المناطق الريفية.
- • تُبلغ حالات الإصابة بعد تفاقمها، مما يعرقل الاستجابة الفعالة.
2.4.2. قدرة محدودة على التشخيص :لا يوجد سوى مختبر مركزي واحد (مثل مختبر الصحة العامة في بغداد) قادر على إجراء اختبار RT-PCR ضمن شروط أمان حيوي عالية. کما أن التأخر في التشخيص يؤثر سلبًا على جهود احتواء المرض.
2.4.3. جمع بيانات غير مكتمل : العديد من استمارات التحقيق تفتقر إلى توثيق دقيق لتاريخ التعرض أو المهنة، مما يضعف التحليل الوبائي والاستجابة المستهدفة.
2.5. ضعف إدارة صحة الحيوان والسيطرة على النواقل
2.5.1. توقف برامج مكافحة القراد بعد كوفيد-19
- • توقفت الخدمات البيطرية خلال 2020–2021 بسبب الجائحة.
- • أدى ذلك إلى زيادة ملحوظة في أعداد قراد الهيالوما.
2.5.2. غياب المراقبة المنتظمة للقراد في المواشي: حیث لا توجد برامج وطنية لفحص انتشار القراد أو اختبار الأجسام المضادة للفيروس في الحيوانات.
2.5.3. فشل في تطبيق نهج "الصحة الواحدة"
- • ضعف التنسيق بين قطاعات الصحة البشرية والبيطرية والبيئية.
- • غياب التعاون المتعدد التخصصات يحد من فعالية الوقاية.
2.6. عدم الاستقرار السياسي وتحديات الحوكمة
2.6.1. عقود من الصراعات وضعف الحوكمة
- • تضررت البنى التحتية للصحة العامة والبيطرية بسبب الحروب والعقوبات والفساد.
- • الأنظمة الصحية اللامركزية والفقيرة في المحافظات غير قادرة على الاستجابة للتفشي الواسع.
2.6.2. الفساد في القطاعين الصحي والزراعي
- • يُساء استخدام الأموال المخصصة لصحة الحيوان ومكافحة النواقل.
- • يعمل أطباء بيطريون ومجازر غير مرخصة دون رقابة أو عقوبات.
2.7. ضعف التوعية والتواصل حول المخاطر
- • هناك قدر ضئيل من التثقيف العام حول الأمراض التي ينقلها القراد، والتعامل الآمن مع اللحوم، أو الوقاية من لدغات القراد.
- • لا توجد حملات توعوية وطنية منتظمة خلال مواسم الذروة (الربيع–الصيف).
- • الفئات الأكثر عرضة (الجزارون، الفلاحون، ربات البيوت) تفتقر للمعلومات ووسائل الحماية الشخصية.
- لمحات من تفشي عام 2023
- • 587 حالة مؤكدة و83 حالة وفاة (نسبة وفيات 14%) – الأعلى تاريخيًا.
- • المحافظات الجنوبية (ذي قار، ميسان، البصرة) شكلت نحو 71% من الإصابات.
- • المناسبات الدينية في يونيو–يوليو (عيد الأضحى ومحرم) ساهمت في زيادة الانتقال.
- • 60% من المصابين تعرضوا للحوم نيئة، و48% شاركوا في الذبح.
- • فقط 8% أبلغوا عن لدغات قراد، مما يعكس صعوبة الكشف عن التعرض للقراد.
- التوصيات
4.1. تعزيز السيطرة على النواقل وصحة الحيوان
- • استئناف حملات مكافحة القراد بتمويل مستدام.
- • بدء برامج وطنية لرصد انتشار القراد وفحص المواشي.
- • تتبع حركة الحيوانات لمنع دخول مواشي مصابة عبر الحدود.
4.2. تحسين المراقبة الصحية العامة
- • تدريب وتجهيز دوائر الصحة المحلية للكشف السريع عن CCHF.
- • إنشاء مختبرات متنقلة لفحص PCR خارج المراكز.
- • تحسين جمع البيانات في استمارات المتابعة الوبائية.
4.3. تعزيز التوعية العامة وتغيير السلوكيات
- • إطلاق حملات توعية وطنية باللغتين العربية والكردية.
- • توزيع أدوات وقاية منخفضة التكلفة قبل مناسبات الذبح.
- • تعزيز ممارسات التعامل الآمن مع اللحوم ومنع الذبح المنزلي.
4.4. التشريعات وتطبيق السياسات
- • فرض القوانين ضد المجازر غير المرخصة.
- • معاقبة تجارة المواشي والذبح غير المرخصين.
- • دعم وحدات الذبح البيطرية المتنقلة في المناطق الريفية.
4.5. اعتماد إطار "الصحة الواحدة"
- • دمج قطاعات الصحة العامة والبيطرية والبيئية ضمن نظام إنذار مبكر.
- • التعاون مع المنظمات الدولية (الفاو، منظمة الصحة العالمية، OIE) لتطوير استراتيجية إقليمية.
- • تدريب الكوادر البيطرية والصحية المجتمعية سويًا على الوقاية من المرض.
- الاستنتاج
تحولت حُمّى القرم–الكونغو النزفية من مرض نادر إلى أزمة صحية سنوية في العراق نتيجة لضعف البنية التحتية في الصحة العامة والطب البيطري وإدارة البيئة وغياب التثقيف المجتمعي. إن تفشي عام 2023 ليس حالة معزولة، بل نتيجة للإهمال المؤسسي والتغيرات البيئية المتسارعة بعد جائحة كوفيد-19. ولكي يتمكن العراق من الحد من تفشي المرض وانتقاله إقليميًا، لا بد من اعتماد نهج شامل ومستدام يعتمد على الصحة الواحدة، ويعززه التشريع، ومكافحة القراد، والتوعية المجتمعية. في غياب تدخل حاسم، سيستمر هذا المرض في إنهاك النظام الصحي، وإضعاف الاقتصاد الريفي، وتهديد الأمن الحيوي في المنطقة.
