فرشة الدواجن، المفاعل الميكروبي الخفي

 

د.ماجد حميد الصائغ

17/ 12/ 2025

أخطر خزان للممرِضات وجينات المقاومة في مزارع الدجاج

أولا : مقدمة: من “مخلَّفات” إلى نقطة تحكّم حرجة تقليديًا تُعامَل فرشة الدواجن على أنها “نفايات” يجب التخلص منها في نهاية الدورة. لكن الأدلة الحديثة من دراسات الميكروبيوم والجينات المقاومة تُظهِر أن الفرشة هي المفاعل الحيوي المركزي في مزرعة الدجاج، وأكبر خزان للممرِضات وجينات مقاومة المضادات الحيوية، بل ونقطة عقد تربط بين صحة الطيور، وجودة الهواء، وسلامة التربة والمياه، وصحة الإنسان في إطار مفهوم الصحة الواحدة One Health.

 

الفرشة ليست مجرد نشارة خشب أو تبن، بل خليط ديناميكي من البراز، وحمض اليوريك، وبقايا العلف، والريش، والماء المتسرب من المشارب وأنظمة التبريد. هذا الوسط الدافئ الغني بالكربون والنيتروجين، مع رطوبة متغيرة وتهوية قد تكون غير مثالية، يشكّل بيئة مثالية لنمو البكتيريا والفيروسات والطفيليات والفطريات وتبادل جينات المقاومة بينها.

 

ثانیا : الميكروبيوم ومخزون جينات المقاومة في فرشة الدواجن

استخدام تقنيات الميتاجينوم والتسلسل واسع النطاق كشف أن فرشة الدواجن تستضيف مجتمعًا ميكروبيًا شديد التعقيد يتكوّن من: أمعائيات (مثل Escherichia coli وSalmonella), كلوستريديا، انتيروكوكس، إضافة إلى فطريات رمية مثل Aspergillus وPenicillium. . إلى جانب هذا “الميكروبيوم”، تُظهِر الدراسات أن الفرشة تحتوي على مخزون كبير ومتنوّع من جينات مقاومة المضادات الحيوية (ARGs)، يشمل مقاومة للتتراسيكلينات، والسلفوناميدات، والماكروليدات، والبيتا–لاكتامات وغيرها. جزء كبير من هذه الجينات محمول على بلازميدات وعناصر وراثية متحركة تسهّل الانتقال الأفقي بين الأنواع البكتيرية، مما يحوّل الفرشة إلى منصة نشطة لتطوّر وانتشار المقاومة داخل المزرعة.

دراسة حديثة على تربة زراعية مُسمَّدة بفرشة دواجن أظهرت أن الاستخدام المتكرر للفرشة يمكن أن يُثري التربة بجينات مقاومة متنوّعة، ويغيّر تركيب الميكروبيوم والتركيزات النسبية لهذه الجينات مقارنة بالتربة غير المعاملة

ثالثا: الممرِضات الرئيسة في الفرشة: بكتيريا وفيروسات وفطريات

البكتيريا المعوية مثل Salmonella وCampylobacter وE. coli الممرِضة (APEC) قادرة على البقاء لفترات طويلة في الفرشة، خاصة عند الرطوبة المتوسطة–العالية. وقد أظهر تتبّع سلاسل العدوى في بعض الدراسات تطابقًا بين العزلات من أمعاء الطيور، وعينات الفرشة، وعينات الهواء والسطوح داخل العنبر، ما يؤكد الدور المركزي للفرشة كـ خزان دائري للعدوى وإعادة تدويرها بين الدجاج والبيئة. الفطريات، بما في ذلك الأنواع المقاومة لمضادات الأزول، تم توثيقها في بيئات الدواجن؛ حيث يشكّل الغبار والفرشة والهواء مسارات متداخلة لانتشار أبواغ الفطريات في العنابر وإلى العمال. دراسة 2025 أشارت إلى أن منشآت الدواجن يمكن أن تكون خزانات لفطريات مقاومة للعلاجات الأزولية، مع دور واضح لفرشة الدواجن والغبار المثار.
. الفطريات، بما في ذلك الأنواع المقاومة لمضادات الأزول، تم توثيقها في بيئات الدواجن؛ حيث يشكّل الغبار والفرشة والهواء مسارات متداخلة لانتشار أبواغ الفطريات في العنابر وإلى العمال. دراسة 2025 أشارت إلى أن منشآت الدواجن يمكن أن تكون خزانات لفطريات مقاومة للعلاجات الأزولية، مع دور واضح لفرشة الدواجن والغبار المثار.

أما الفيروسات، مثل فيروسات النيوكاسل، والتهاب الشعب المعدي (IBV)، والتهاب جراب فابريشيوس (IBDV)، والأهم فيروسات إنفلونزا الطيور عالية الضراوة HPAI، فهي تُطرَح بكميات كبيرة في البراز وتستقر على سطح الفرشة. نماذج محاكاة حديثة لإنفلونزا الطيور أظهرت أن الفيروس يمكنه البقاء على سطح الفرشة عدة أيام عند درجات حرارة معتدلة، ويُحمَل على جزيئات غبار دقيقة (1–5 ميكرون) تخرج من العنابر وتنتقل لمسافات قد تكون طويلة حسب اتجاه الرياح وظروف التهوية.

 

رابعا: الفرشة والهواء: الغبار والهباءات الحيوية كجسر عدوى.

الفرشة والهواء داخل عنبر الدجاج نظامان متداخلان؛ فكل حركة للطيور، وكل خطوة للعاملين، وكل تشغيل للمراوح تعني إثارة لجزيئات دقيقة من الفرشة، محمّلة ببكتيريا وفيروسات وفطريات وDNA حُرّ وجينات مقاومة. دراسات 2024–2025 رصدت مستويات عالية من الجسيمات الدقيقة (PM10 وPM2.5) والحمولات البكتيرية في هواء عنابر التسمين خلال الصيف والشتاء، مع تغير التركيزات حسب عمر الطيور وحالة الفرشة وسرعة التهوية.

دراسة على الميكروبيوم والجينات المقاومة في الهواء الداخلي لعنابر الدواجن أظهرت أن البكتيريا الحاملة لجينات مقاومة يمكن أن تصبح جزءًا من الهباءات الحيوية (bioaerosols) وتنتقل داخل العنبر وبين العنابر، مما يخلق خطرًا مزدوجًا على صحة الطيور والعاملين. هذا يعني أن التحكم في صحة الهواء يعتمد جذريًا على التحكم في صحة الفرشة؛ فهما وجهان لعملة واحدة: ما يتكاثر في الفرشة يتحول إلى هواء مستنشق، وما يترسّب من الهواء يعود إلى الفرشة، حاملاً معه مزيجًا جديدًا من الميكروبات وجينات المقاومة.

 

خامسا : الطفيليات المعوية والكوكسيديا: فرشة الدواجن كمسرح دورة الحياة

تمثّل الكوكسيديا (Eimeria spp.) المثال الأوضح لارتباط دورة حياة طفيلي بالفرشة. الأووسِتات تُطرَح غير متبوغة في البراز، ثم تتحول إلى شكل متبوغ مُعدٍ في الفرشة الرطبة الدافئة خلال ساعات–أيام، ثم تُبتلع مرة أخرى مع الفرشة أو العلف أو الماء. مراجعات حديثة حول الكوكسيديا أكّدت أن مستوى الضغط العدوي في العنبر يرتبط مباشرةً برطوبة الفرشة، وعدد الدورات التي تُعاد فيها، ودرجة تكتلها حول المشارب والعلافات.

تجربة مصرية على فعالية بعض الإضافات الكيميائية لفرشة الدواجن أثبتت أن تعديل خصائص الفرشة (مثل خفض pH أو تحسين التجفيف) يمكن أن يقلل بقاء البكتيريا المرضية ويثبط تبوّغ أووسِتات الكوكسيديا، ما يعزّز فكرة أن الفرشة ليست مسرحًا سلبيًا، بل نقطة تدخل أساسية في برامج السيطرة على الكوكسيديوز. كما أظهرت مراجعات للمعالجات النباتية (phytochemicals) أن بعض المركبات، مثل الأرتيميسينين، يمكن أن تقلل من قدرة الأووسِتات على التبوّغ والبقاء في الفرشة، ما يفتح الباب لاستراتيجيات تكاملية تجمع بين إدارة الفرشة والتغذية واللقاحات.

 

سادسا: الفرشة كناقل لجينات المقاومة إلى التربة والنظام الزراعي.

عند إزالة الفرشة من العنابر، غالبًا ما تُستخدم كمصدر سماد عضوي غني. إلا أن هذا المسار يربط مباشرةً بين خزان الميكروبات المقاومة في المزرعة وبين التربة والمياه والنبات. دراسة 2025 على تربة معاملة بفرشة دواجن بيّنت أن التسميد المتكرر بالفرشة يرفع تنوّع وكثافة جينات مقاومة المضادات في التربة مقارنة بالحقول غير المعاملة، مع إمكانية انتقال بعض هذه الجينات إلى بكتيريا التربة أو الميكروبيوم المرتبط بالجذور.

دراسات أخرى على ديناميكية انتقال جينات المقاومة أظهرت أن الإفراط في استخدام المضادات في صناعة الدواجن، مع إدارة ضعيفة للمخلفات، يساهم في تلويث السلاسل البيئية المختلفة (تربة – مياه – نبات) بجينات مقاومة يمكن رصدها لاحقًا في بكتيريا معزولة من الغذاء أو البيئة أو حتى المرضى البشر. في المقابل، أثبتت عدة تجارب أن الكمبوست الحراري المراقَب للفرشة/السماد يمكن أن يقلل بشكل ملحوظ من تراكيز جينات المقاومة والمضادات المتبقية والبكتيريا المرضية، مقارنة بالتكديس الخام أو التخزين البارد طويل الأمد. مزيج من التهوية الجيدة، ونسبة كربون:نيتروجين ملائمة، وزمن كمبوست كافٍ (8–10 أسابيع) أظهر قدرة على خفض الجينات المقاومة والحمولات البكتيرية في منتجات السماد النهائي.

 

سابعا : استراتيجيات حديثة للسيطرة: من مستوى العنبر إلى مستوى السياسة.

1- على مستوى المزرعة
إدارة الرطوبة والتهوية في الفرشة :
• الحفاظ على رطوبة ضمن نطاق “جاف–مفتّت” لتقليل كلٍّ من الغبار والروائح والكوكسيديا.

• إصلاح تسرّبات المشارب فورًا، وضبط أنظمة الرذاذ والتبريد بحيث لا تُغرق الفرشة.

سياسة واعية لإعادة استخدام الفرشة :
• تقليل عدد الدورات على نفس الفرشة في المزارع ذات التاريخ المرضي المعقّد (سالمونيلا، كوكسيديا، التهاب أمعاء نخري).

• عند إعادة الاستخدام، تطبيق معالجات بين الدورات (تجفيف، تقليب، مواد محسّنة مثل مركبات الألومنيوم أو الجبس) حسب الأدلة المحلية.

تقليل الضغط الانتقائي للمضادات الحيوية: • راجع بروتوكولات استخدام المضادات الحيوية مع طبيبك البيطري. انتقل إلى برامج تطعيم فعالة وإضافات علفية بديلة (أحماض عضوية، بروبيوتيك، مواد كيميائية نباتية) لتقليل الاعتماد على المضادات الحيوية، بما يتماشى مع توصيات أحدث الدراسات حول مقاومة المضادات الحيوية في قطاع الدواجن.

• مراقبة دورية للفرشة
• إدخال أخذ عينات من الفرشة لتحليل الميكروبيوم أو الكشف عن ممرضات محددة (سالمونيلا، E. coli مقاومة، كوكسيديا) ضمن برامج الجودة الداخلية في المزارع المتقدمة

2- على مستوى إدارة المخلفات والكمبوست 

  • اعتماد بروتوكولات كمبوست حراري إلزامية قبل استخدام الفرشة كسماد في الحقول ذات المخاطر العالية (الخضروات الطازجة، مزارع قريبة من التجمعات السكنية).
  • ضبط مواقع أكوام الفرشة والكمبوست بحيث تبعد بما يكفي عن المنازل ومجاري المياه، مع منع الجريان السطحي للراشح الملوث.

3- على مستوى التشريعات والسياسات.مراجعات 2025 حول بيئة مزارع الدواجن وجينات المقاومة تؤكد حاجة الدول إلى أطر تنظيمية تأخذ بعين الاعتبار:

مراجعات 2025 حول بيئة مزارع الدواجن وجينات المقاومة تؤكد حاجة الدول إلى أطر تنظيمية تأخذ بعين الاعتبار:

إدخال مؤشرات نوعية للفرشة ضمن اشتراطات الترخيص ومبادئ الممارسة الجيدة (GAP).

• اعتبار إدارة الفرشة بندًا واضحًا في خطط العمل الوطنية لمقاومة المضادات (NAPs) في إطار الصحة الواحدة. تشجيع البحث التطبيقي في تعديل الميكروبيوم في الفرشة والكمبوست لتقليل الممرضات وجينات المقاومة قبل وصولها إلى البيئة الزراعية.

 

ثامنا: خاتمة: من يسيطر على الفرشة يسيطر على رواية الصحة في المزرعة

الصورة التي ترسمها الأدلة الحديثة واضحة: فرشة الدواجن هي القلب الميكروبي والوبائي لمزرعة دجاج اللحم. ما يحدث فيها ينعكس على صحة القطيع، وعلى الغبار وهواء العنبر، وعلى التربة والمياه والنبات، وعلى صحة الإنسان في نهاية السلسلة الغذائية. الفرشة ليست عبئًا جانبيًا، بل نقطة تحكّم حرجة (Critical Control Point) يجب أن تنتقل إلى مركز الاهتمام البيطري والإداري والتشريعي. الاستثمار في فهم وإدارة الفرشة – رطوبة، تهوية، إعادة استخدام، كمبوست، وتسميد – ليس تفصيلًا تقنيًا صغيرًا، بل خطوة استراتيجية لتقليل الأمراض، وكبح مقاومة المضادات، وخفض الشكاوى المجتمعية، وحماية البيئة في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والعالم.

اترك تعليقا

قد يعجبك ايضا