ملوحة مياه الشرب في مزارع الدواجن – مراجعة عالمية ودروس مستفادة للعراق (2025)
د. ماجد حمید الصایغ / اختصاص امراض الدواجن / استرالیا
28/7/2025
في السنوات الأخيرة، أصبحت جودة مياه الشرب من أبرز التحديات التي تواجه مزارع الدواجن، خاصة في المناطق التي تعاني من ندرة المياه العذبة. والعراق ليس استثناءً. ففي العديد من مناطق البلاد، مثل البصرة والمثنى وأجزاء من الأنبار وديالى، تعتمد مزارع الدواجن بشكل أساسي على مياه الآبار، والتي غالبًا ما تحتوي على مستويات متفاوتة من الملوحة. ومع تراجع الاعتماد على مياه الأنهار أو مياه الإسالة في بعض المناطق، يلجأ المربّون إلى المياه الجوفية المالحة لتغطية احتياجاتهم اليومية. لكن هذا التحول يثير تساؤلات جدية حول تأثير ملوحة المياه على صحة الدواجن وإنتاجيتها.
الملوحة تُقاس عادةً بما يُعرف بـ "المواد الصلبة الذائبة الكلية" أو TDS، وهي تمثل مجموع الأملاح والمعادن المذابة في الماء، مثل الصوديوم والكلوريد والبيكربونات والكبريتات. وعلى الرغم من أن بعض هذه المعادن مفيد عند وجوده بنسب معتدلة، إلا أن تجاوزها لمستوى معين يمكن أن يصبح ضارًا، خصوصًا في الحيوانات الحساسة مثل الدواجن. فالطيور، وخاصة الصيصان الصغيرة، لا تمتلك القدرة الكافية على التخلص من كميات كبيرة من الصوديوم، مما يجعلها عرضة للإجهاد التناضحي واضطرابات التوازن المائي.
الإرشادات الدولية تتفاوت في تفاصيلها، لكنها تتفق على جوهر واحد. فحسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO)، فإن مياه الشرب التي تحتوي على أقل من 1000 جزء بالمليون من TDS تُعتبر ممتازة للدواجن، بينما يمكن استخدام المياه التي تحتوي على 1000 إلى 2500 جزء بالمليون بحذر، خاصة مع الطيور الأكبر عمرًا وفي ظل إدارة جيدة. أما المياه التي تتجاوز 3000 جزء بالمليون، فتُصنف عادةً على أنها غير مناسبة، خصوصًا لفروج اللحم في المراحل المبكرة من النمو. هذه المعايير تؤكدها أيضًا هيئة NRC الأمريكية، كما تعتمدها أستراليا وكندا في إرشادات تربية الدواجن لديها.
في أستراليا، على سبيل المثال، حيث تعاني بعض المناطق الجافة من ملوحة المياه، تنصح الجهات البيطرية بألّا تتجاوز تركيزات الصوديوم في مياه الشرب 200 ملغم/لتر، ولا يتعدى الكلوريد 250 ملغم/لتر. وقد تبين أن تجاوز هذه القيم يؤدي إلى زيادة استهلاك الماء، وارتفاع نسبة البلل في الفرشة، وتراجع كفاءة تحويل العلف، وانخفاض جودة القشرة في بيض الدجاج البياض. هذه التأثيرات لا تقتصر على الجانب الصحي فقط، بل تؤثر كذلك اقتصاديًا، إذ إن الفرشة الرطبة تزيد من احتمالية التهابات الأقدام ومشاكل الجهاز التنفسي، ما ينعكس سلبًا على الإنتاج والمردودية.
أما في منطقتنا العربية، فقد نُشرت دراسة مهمة في مصر عام 2024 في مجلة "علوم الدواجن المصرية"، أُجريت في منطقة بني سويف، وهي منطقة زراعية جافة تشبه بيئتها المناخية والمائية ظروف العديد من مناطق العراق. اختبر الباحثون تأثير مياه آبار مالحة تحتوي على 3100 جزء بالمليون من TDS على أداء فروج اللحم. أظهرت النتائج أن الطيور التي شربت هذه المياه بشكل متواصل أظهرت علامات واضحة على تلف الكبد وارتفاع إنزيمات ALT وAST، إلى جانب انخفاض في مستويات البروتين الكلي والألبومين، وتراجع في هرمون T3، الذي يعكس نشاط الغدة الدرقية. ولكن المثير للاهتمام أن الطيور التي شربت الماء المالح فقط بعد عمر 18 يومًا، أو التي شربته بالتناوب مع الماء العذب أسبوعيًا، كانت أقل تأثرًا بكثير، وأظهرت أداءً شبه طبيعي. هذه النتائج تؤكد أن استخدام المياه المالحة ليس بالضرورة كارثيًا، إذا ما تم التحكم في توقيت استخدامها وطريقة إدارتها.
وبالانتقال إلى جنوب آسيا، حيث تنتشر مزارع الدواجن في بيئات تعتمد على المياه الجوفية المالحة، أظهرت دراسات أجريت في الهند وباكستان نتائج مشابهة. في الهند، توصل باحثون إلى أن مياه الشرب التي تحتوي على حوالي 2200 جزء بالمليون من TDS أثرت بشكل معتدل على إنتاج البيض في الدجاج البياض، خاصة عند استمرار التعرض لها لفترات طويلة. كما تبين أن إضافة فيتامين C و E كمضادات أكسدة في العلف قللت من آثار الإجهاد الناتج عن الملوحة. وفي باكستان، أظهرت دراسة من معهد بحوث الدواجن أن تعرّض فروج اللحم لمياه تحتوي على أكثر من 3000 جزء بالمليون من الأملاح الذائبة أدى إلى ضعف واضح في النمو وزيادة الوفيات، خاصة في ظل درجات الحرارة العالية التي ترفع من استهلاك الماء، وبالتالي من كمية الأملاح المتناولة.
على المستوى العالمي، تتبع الدول المتقدمة استراتيجيات مختلفة لمواجهة ملوحة المياه، ومنها استخدام محطات التحلية بتقنية "التناضح العكسي" (RO). لكن هذه التقنيات تظل مرتفعة التكلفة وغير مناسبة لغالبية المزارع الصغيرة والمتوسطة في العراق. لذلك، هناك حلول أبسط وأكثر واقعية يمكن تطبيقها محليًا، مثل خلط مياه الآبار المالحة بالمياه العذبة عند توفرها، أو جمع مياه الأمطار وتخزينها لاستخدامها خلال مرحلة الصيصان. ومن الاستراتيجيات الناجحة أيضًا، والتي أثبتت فعاليتها في الدراسة المصرية، هو التناوب الأسبوعي بين الماء المالح والعذب، وهي طريقة بسيطة لا تتطلب معدات إضافية.
عمليًا، يجب على مربي الدواجن في العراق تجنب استخدام المياه المالحة بشكل كامل خلال أول أسبوعين من عمر الطيور، وهي الفترة الأكثر حساسية. بعد ذلك، يمكن استخدام هذه المياه بشكل مدروس، خاصة إذا تم دعم الطيور بمكملات غذائية مثل فيتامين C أو البروبيوتيك لتحسين مقاومة الإجهاد. من المهم كذلك أن تصبح عملية فحص المياه باستخدام أجهزة TDS المحمولة عادة أساسية في كل مزرعة، لأن الأثر الضار لا يكون دائمًا واضحًا للعين، بل يتراكم بصمت مع مرور الوقت.
في الختام، تُظهر الخبرات الدولية بوضوح أن ملوحة مياه الشرب تُعد تحديًا حقيقيًا لصحة وإنتاج الدواجن. لكن مع الإدارة الذكية، والتخطيط الجيد، والدعم الغذائي المناسب، يمكن للمزارع أن تتأقلم وتستمر في الإنتاج حتى في ظل ظروف مائية صعبة. وبالنسبة للعراق، فإن التجارب من مصر وأستراليا وجنوب آسيا توفر خريطة طريق واضحة للتعامل مع هذه القضية بطرق عملية وفعالة