الخطة الوطنية الأولى لحماية صناعة الدواجن في العراق

 

 

د.ماجد حمید الصایغ

27/ 10/ 2025

الإطار الرسمي المقترح للسيطرة على الأمراض المنتقلة عموديًا عبر بيض التفريخ المستورد ( استنادًا إلى أدلة ميدانية حديثة داخل العراق وتوصيات منظمات دولية متخصصة).

المقدّمة الرسمية
تواجه صناعة الدواجن في العراق عام 2025 تهديدًا استراتيجيًا متصاعدًا لا يشبه الأخطار التقليدية المرتبطة بالأمراض التنفسية الشائعة أو سوء إدارة المزارع فقط. الخطر اليوم أصبح يبدأ قبل المزرعة، قبل العلف، وقبل اللقاح — يبدأ داخل البيضة نفسها. لقد وثّقت مصادر بيطرية عراقية ومصادر دولية أن بعض المسببات المرضية عالية الأثر الاقتصادي، مثل فيروس الأدينوفيروس الطيري Fowl Adenovirus، و خاصة العترات الشديدة مثل ( FAdV-4) ، والمايكوبلازما التنفسية Mycoplasma gallisepticum وMycoplasma synoviae ، و السالمونيلا بولورم / جاليناروم (Salmonella pullorum / Salmonella gallinarum)، لا تنتقل فقط أفقياً بين الحظائر، بل تنتقل رأسيًا، أي من قطيع الأمهات إلى داخل البيضة المخصبة، ثم إلى الصوص لحظة الفقس. هذا النمط من الانتقال العمودي يجعل البيضة المخصبة (بيض التفريخ) نقطة دخول محتملة للمرض، و ليس مجرّد مادة إنتاج حيواني.

 

المعطيات الحديثة من الحقول العراقية توضّح أن هذه ليست نظرية أكاديمية، بل واقع فعلي باهظ الكلفة:
أدينوفيروس الدجاج (FAdV-4) ومتلازمة الاستسقاء التأموري القلبي / التهاب الكبد ذي الأجسام الاحتوائية (HHS / IBH) : سُجِّلت في مزارع فروج اللحم في جنوب العراق خلال 2024 حالات نفوق كارثية وصلت إلى قرابة 65% في قطيع بعمر يقارب ثلاثة أسابيع، مع آفات تشريحية نمطية ( تضخم كبد مع آفات نخرية ،أجسام احتوائية فيروسية، تجمّع سائل حول القلب (استسقاء تأموري)). وقد تم ربط هذه الحالات بعترات أدينوفيروس شديدة الإمراض من النمط FAdV-4، المعروفة عالميًا بأنها قادرة على الانتقال رأسيًا من قطيع الأمهات إلى البيضة، بحيث يفقس الصوص وهو مصاب مسبقًا. هذا السيناريو تم توثيقه أيضًا في مناطق نينوى و ديالى منذ 2021–2022، ما يؤكد أن الخطر لم يعد محصورًا بمنطقة جغرافيًة.

 

المايكوبلازما التنفسية (Mycoplasma gallisepticum / M. synoviae) :
تحليل مخبري ميداني لقطعان فروج اللحم في سامراء (عينات أواخر 2022، نتائج منشورة 2024) أظهر معدلات وجود Mycoplasma gallisepticum تخطت 30% في القطعان المريضة تنفسيًا. كما أظهرت دراسة PCR عراقية معدلات إنتشار للمایکوبلازما ساینوفي Mycoplasma synoviae وصلت إلى نحو 55%، مع حالات عدوى مزدوجة (MG + MS) بنسبة 35%. هذه الأرقام تبيّن أن عدوى المايكوبلازما ليست حادثة فردية، بل ظاهرة واسعة تؤثر على صيصان بعمر مبكر جدًا بمظاهر التهاب الأكياس الهوائية، صفير تنفسي، التهاب الأوتار والمفاصل، وتثبيط النمو. إن المايكوبلازما قادرة على الانتقال رأسيًا عبر البيضة، ما يعني أن الصوص يمكن أن يفقس أصلًا وهو حامل عدوى تنفسية ومفصلية مزمنة.

سالمونيلا بولورم / سالمونيلا جاليناروم (مرض البولورم ومرض التيفوئيد الداجني) :
في محافظة بابل، أظهرت دراسات بكتريولوجية وجزيئية حديثة نسب عزل مرتفعة لسالمونيلا من دجاج اللحم المحلي، مع تأكيد وجود Salmonella pullorum باستخدام تقنيات التضخيم الجيني (PCR)، وبنسب إيجابية وصلت إلى أكثر من 60% من العينات المفحوصة في بعض السلاسل. هذه السلالة بالذات (S. pullorum) هي المسبب الكلاسيكي لمرض البولورم في الكتاكيت، والذي يظهر بشكل “إسهال أبيض”، خمول شديد، وانتفاخ بطني، ونفوق مبكر جدًا. وهي سلالة معروفة بأنها تنتقل رأسيًا من الأمهات إلى داخل محتوى البيضة، وليس فقط من تلوث الفرشة. استمرار وجود البولورم ميدانيًا في العراق يؤكد أننا نتعامل مع خطر قديم لكنه حي، وليس مشكلة منتهية كما في بعض الدول التي نجحت في إستئصاله من قطعان الأمهات.

 

هذه الوقائع تحمل دلالة سياسية وفنية واقتصادية بالغة الأهمية:

أولا: أولاً: هذا المستوى من الخسارة ليس خسارة مزرعة واحدة، بل خسارة وطنية. حين يتسبب فيروس أدينوفيروس رأسي المصدر (FAdV-4) في نفوق 30%–65% من قطيع لحم عمره أقل من شهر، هذا ليس مجرد “مرض مزرعة”. هذه فجوة مباشرة في الأمن الغذائي الوطني (إنتاج لحم الدواجن)، و إرتفاع في تكلفة الكيلوغرام للمستهلك، و إنهيار ربحية للمربي. وهذه الخسارة تقع اليوم على المربين العراقيين، لا على المورّد الأجنبي للبيض.

ثانیا: هذه الأمراض تحديدًا تتجاوز أي محاولة لاحقة للسيطرة في الحقل. المربّي قد يعقّم، قد يلتزم بالتحصين التقليدي، قد يحدّ من الزيارات ويمنع دخول سيارات علف ملوّثة. لكن إذا إستلم صوصًا فقس أصلًا وهو حامل مايكوبلازما تنفسية، أو صوصًا حاملاً سالمونيلا بولورم في الدم، أو صوصًا محمّلًا بعترة أدينوفيروس مميتة، فإن “الأمن الحيوي داخل المزرعة” يصبح متأخّرًا. الضرر وصل الی الحقل قبل دخول الصوص إلیها. هذه هي طبيعة الانتقال العمودي، ولهذا يعتبره دليل الممارسات الجيدة للمفرخات (FAO) نقطة كسر السلسلة الحيوية الأولى: إمّا نمنع دخول العدوى مع البيضة، أو سنصرف ثمنها داخل البلد.

ثالثا: العراق يملك بالفعل أدوات سيادية لإيقاف هذا، لكنه لا يطبقها بعد على جميع العوامل الرأسية. وزارة الزراعة العراقية، والجهات البيطرية الرسمية، لديها سابقة تنظيمية قوية:

- العراق يمنع دخول بيض التفريخ والكتاكيت عمر يوم من أي ولاية أمريكية أثناء تفشي إنفلونزا الطيور عالية الضراوة (HPAI)، ولا يرفع الحظر إلا بعد مرور 28 يومًا من الاستئصال والتطهير الرسمي هناك. هذا موثق رسميًا كشرط استيراد.

- كذلك، العراق يشترط أصلًا وجود إجازة استيراد مسبقة، وشهادة صحية بيطرية رسمية صادرة من الجهة البيطرية الحكومية في بلد المنشأ ومصدَّقة من السفارة العراقية قبل الشحن، وخاصة عند استيراد بيض التفريخ والكتاكيت عمر يوم. هذا يعني أن العراق يعترف قانونيًا بأن بيض التفريخ “مادة عالية المخاطر” وليست سلعة عادية.

هذه الآليات موجودة. السؤال الآن هو: لماذا لا نوسّع هذه السلطات نفسها لتشمل كل المسببات الرأسية التي تهدد إنتاج الدواجن المحلي — الأدينوفيروس عالي الضراوة ( FAdV-4، IBH/HHS ) ، المايكوبلازما (MG/MS)، والسالمونيلا بولورم/جاليناروم ، بدل التركيز فقط على إنفلونزا الطيور؟

المطلوب من صانعي القرار (الوزارة، الحجر البيطري، الجهات الرقابية الجمركية، وديوان الرقابة المالية إذا لزم) واضح:
1- الاعتراف رسميًا بأن “الدورة الأولى من الأمن الحيوي الوطني” تبدأ عند بوابة استيراد البيض المخصب، وليس فقط عند أبواب المزارع المحلية.
2- إصدار نموذج وطني موحّد للشهادة الصحية البيطرية المرافقة لأي شحنة بيض تفريخ مستورد، ينص حرفيًا وبوضوح على أن قطيع الأمهات في بلد المنشأ:
أ- خالٍ من العترات الرأسية عالية الأثر اقتصاديًا لفيروس الأدينوفيروس (FAdV-4 المرتبط بمتلازمة الاستسقاء التأموري القلبي / IBH/HHS).
ب- خالٍ من المايكوبلازما ذات الأهمية التجارية (Mycoplasma gallisepticum وMycoplasma synoviae، وMycoplasma meleagridis في الرومي)، بناءً على فحوص سيرولوجية و/أو PCR دورية تحت إشراف بيطري رسمي.
ج- خالٍ من سالمونيلا بولورم / جاليناروم (Pullorum / Fowl Typhoid)، وفق برنامج مراقبة رسمي مكافئ لبرامج “Pullorum-Typhoid Clean” المعتمدة دوليًا، مع توثيق نتائج الفحوص.

إلزام الحاضنات داخل العراق بأن تعمل كبوابات حجر بيطري وليس فقط مصانع صيصان:
1- فصل مناطق “نظيفة” (استلام البيض وتعقيمه) عن مناطق “ملوّثة” (الفقس وسحب الصيصان) .
2- عدم خلط دفعات من مصادر مختلفة في نفس الفقاسة قبل إتمام الفحوص.
3- أخذ عينات من بطانة صناديق الصيصان، الأجنة النافقة، والزغب/الغبار في غرفة الفقس، وفحصها لسالمونيلا، مايكوبلازما، وأدينوفيروس قبل السماح بتوزيع الصيصان للمزارع. هذا الإجراء موجود في توصيات FAO وفي تعليمات WOAH عن المراقبة عند مستوى المفرخ، ويُعتبر أداة إنذار مبكر حقيقية.
4- حفظ سجل لكل دفعة (المصدر، نتائج الفقس، نسب النفوق المبكر، أي علامات مرض رأسي) لمدة لا تقل عن سنتين، لضمان إمكانية التتبع العكسي الفوري إذا ظهرت مشكلة ميدانية. هذا الأسلوب هو نفس منطق الاتحاد الأوروبي والهيئات الدولية: المفرخ هو نقطة التتبع القانونية.

تحميل المسؤولية المالية بشكل صريح:
إذا ثبت أن شحنة بيض تفريخ مستورد كانت حاملة رأسياً ( افقیا) لمسبب مرض (أدينوفيروس قاتل، مايكوبلازما، سالمونيلا بولورم)، ونتج عنها خسائر أو تفشيات واسعة في العراق، فإن المورّد المصدر والمستورد المحلي يحمَّلان كلفة الإعدام الصحي، التطهير، الفحوص المختبرية، والتعويضات.
هذه الصيغة ليست جديدة، فدول مجلس التعاون الخليجي والعراق نفسه تطبّق منطق مشابه عند التعامل مع إنفلونزا الطيور عالية الضراوة في الاستيراد (تعليق الاستيراد من مناطق موبوءة، وتحميل المستورد المسؤولية عند المخالفة)، ويمكن ببساطة توسيعها لتشمل الأمراض الرأسية

هذه الوثيقة وُضعت بصيغة لكي تُقرأ من قبل:
• صُنّاع القرار (الوزارة، الأجهزة الرقابية).
• السلطات البيطرية في المنافذ الحدودية.
• أصحاب الحاضنات التجارية.
• الأطباء البيطريين الميدانيين.
• المربين أنفسهم.

الرسالة واضحة:
العراق لا يمكنه الاستمرار في خسارة قطعان كاملة خلال 2–4 أسابيع بسبب أمراض كان يجب أن تُمنع من الدخول أصلاً عند مرحلة البيضة. كل شحنة بيض تفريخ غير مراقبة صحيًا ليست “فرصة إنتاج”، بل قد تكون ناقلة مرض وطني جاهز للانتشار. السيطرة تبدأ من هنا ، من بوابة البيض المخصب، باعتباره الحلقة الأولى للأمن الحيوي الوطني.

اترك تعليقا

قد يعجبك ايضا